فيه دم بيناتنا
بقلم ميرا بوشموني وترجمة ياسر الزيات
كمواطنة شابة تشارك لأول مرة في الإنتخابات البرلمانية اللبنانية، أتيح لي أن أشهد من خلال أفراد عائلتي/دائرتي، على كيفية تأثير هياكل السلطة العائلية، المتقاطعة مع النوع الإجتماعي والطبقة، على السلوك الإنتخابي في لبنان. توسعت هذه التجربة أكثر من خلال محادثات أولية مع أفراد عائلتي وأحاديث مع أصدقاء ومعارف في بيروت، والذين ينحدرون إما من دوائر آمنة١ أو من مقاعد الشوف-عاليه التي تمتع فيها المرشحون/ات المستقلون/ات والدوائر المستقلة بفرص فوز أكبر. ومع ذلك، مع إجراء المزيد من المحادثات والمقابلات، بدأت أجد مشهداً معقداً يتجاوز سردية الزبائنية التي كثيراً ما نتكئ عليها أثناء الحديث عن السياسة في لبنان ولا سيما الإنتخابات. ليست المسألة ببساطة أن العائلات تعمل لحماية مصالح رب العائلة،٢ ولا أن الأخير هو من يتخذ القرار حول كيف سيصوت أبناء العائلة. هذه السردية تدور إلى حد كبير حول حديثنا نحن٣ عن الإنتخابات وكيفية حساب الأحزاب السياسية للأصوات ضمن دوائرها الإنتخابية.٤ لكن بالتعمق تصبح هذه التصورات بحاجة إلى مراجعة. تسعى هذه المقالة لتسليط الضوء على مدى تأثير هياكل السلطة القبلية/العائلية على سلوك النساء والشباب والرجال الإنتخابي، مع التمحيص في السلوك الإنتخابي الفعلي للنساء مقابل التصورات التي تشرح كيف يصوّتن؛ لا تهدف المقالة إلى دحض فهمنا الحالي للسلوك الإنتخابي بل إلى تقديم ملاحظات عن التعقيدات والفروق الدقيقة في السلوكيات المذكورة عبر إلقاء الضوء على سرديات شخصية إضافية حول الإنتخابات اللبنانية.
أجريت مقابلات فردية مع تسعة أشخاص، من بينهم سبعة شبان دون سن الثلاثين (٤ إناث، ٣ ذكور)، أربعة منهم كانوا ناخبين/ات للمرة الأولى، وثلاثة شاركوا في الإنتخابات البلدية السابقة. أما البقية فنساء فوق الثلاثين ممن كن قد إنتخبن من قبل. تمّ إختيار الأشخاص بشكل عشوائي، وتمت مقابلتهم/ن بعد الإنتخابات البرلمانية في عام ٢٠١٨.
النساء والشباب يصوّتون مع أزواجهم/ن وآبائهم/ن، وحين لا يحدث ذلك يذهب الإفتراض إلى أن حدث. كلي على ذوقك والبسي على ذوق الناس.٥
أقنعت أ.ج.٦ أمها وشقيقها بالتصويت معها٧ لإحدى القوائم المستقلة، بعد أن زعمت أمها أنها ستحذو حذو زوجها ولن تصوت، فيما تم دفع تذكرة سفر شقيقها من قطر من قبل أحد الأحزاب السياسية الكبرى. رفض والدها التصويت كنوع من الإحتجاج على الأحزاب الحاكمة، لأنه كان مقتنعاً بأنه لو ذهب إلى مركز الإقتراع فسيتم الإفتراض أنه وهو عائلته صوتوا لصالح جنبلاط، حتى لو لم يفعلوا ذلك وحتى لو ذكروا بوضوح لمن صوتوا.٨
أما ب.هـ.٩ فلم ترغب في التصويت في الإنتخابات البلدية بسبب نزاع شخصي مع المختار.١٠ بعد محاولة فاشلة لإقناع زوجها بعدم التصويت، أُجبرت على الذهاب إلى مركز الإقتراع معه. شعرت بأنها خسرت إستقلاليتها السياسي الذاتي بعد تعرضها لضغوط للتصويت، وعلمت أنها حتى لو أنها ورقة فارغة أو صوتت لشخص آخر ستظل تُعتبر أنها صوتت مع زوجها لصالح المختار. لكن على النقيض من ذلك، لم يتفق الطرفان في الإنتخابات البرلمانية فقط على الجهة التي ستنال صوتيهما، بل عبروا عن ولائهما عبر تعليق صورة كبيرة لطوني فرنجية١١ على منزلهما، كما كانت الزوجة مندوبة١٢ في مركز الإقتراع. وبدلاً من أن ينظر إلى صوتها كخيارها الخاص المستند إلى آرائها السياسية الخاصة ورغبتها في الدفع بمصالح أطفالها الإقتصادية المستقبلية، وهو السبب الذي ذكرته هي وزوجها، كان الخطاب العام أنها صوّتت مع زوجها.
على غرار المثالين المذكورين أعلاه، نرى الأمر نفسه يحدث حيثما تكون العائلات أكثر إهتماماً بصورتها ككتلة واحدة صوتت معاً من إهتمامها بالواقع الفعلي. بعد مناقشات مع العائلة حول الإنتخابات ومن يجب التصويت لصالحه، قرر ت.س.١٣ الذهاب إلى مركز الإقتراع مع عائلته، لكنه وضع بطاقة فارغة.١٤ عرفت عائلته بالأمر، ولكن أولويتهم كانت أن يحضر معهم بحيث يبدو كما لو أنه صوت لنفس الحزب الذي صوتوا له.
مصالح النساء الإقتصادية الفردية منفصلة عن مصالح أرباب عوائلهن، ويمكن لها أن تلعب دوراً دافعاً أكبر في سلوكها الإنتخابي من أي روابط أبوية/قبلية
شعرت ك.ج.١٥ بالحيرة بين التصويت لمن أمّن لها الوظيفة والتصويت لصالح إبن عمها المرشح في الإنتخابات. في هذه الحالة، نرى ناخبة تعاني من المأزق نفسه الذي يعاني منه رب العائلة الذكر التقليدي، والذي عليه أن يقرر الشخص الذي سيصوت لصالحه على أساس خدمات زبائنية ومصادر أرزاق مباشرة، بالمقارنة مع الشخص الذي يتوافق معه أكثر في السياسة، وهو في هذا الحالة سيرغب في دعم أحد أفراد عائلته. نرى هنا مسألة التحالف العائلي من جانب آخر، أي رغبة الناخبين/ات في دعم أقربائهم المرشحين/ات.
كان لدى معظم من قمت بمقابلتهم/ن شعور قوي بأنه سيتم معرفة من صوتوا لصالحهم/ن لاحقاً من خلال تحديد القوائم الخاصة بكل عائلة وإستنتاج مَن مِن العائلة نأى بنفسه عن التصويت لمن زعم رب العائلة أن الجميع صوت له. عدّ الأصوات على أساس العائلة يعني أن الناس يخشون أيضاً إنعكاسات التصويت على العائلة بشكل عام. على سبيل المثال، كانت ك.ج. قلقة من فقدان أختها لوظيفتها في حال لم تصوت للمرشح الذي يدعمه صاحب العمل.١٦ حين تعتبر الأصوات جزءاً من تبادل خدمات، يزداد القلق الذي يسببه فرز الأصوات للمواطنين/ات.
يحدث أن يتم الإستخفاف بسلوك ومنطق النساء الإنتخابي بالقول إنه يتماشى حصراً مع وجهات نظر رب عائلتها
صرّح د.ك.١٧ في البداية أن أختيه صوّتوا مع أزواجهن، ولكن بعد مزيد من النقاش بات واضحاً أنهما كانتا متفقتين منذ البدء على التصويت لنفس المرشح، فقد عملت أختاه في الحملة الإنتخابية الأولى لهذا المرشح قبل أن تتزوجا. هذا مثال واحد يطرح التساؤل حول كمية الأصوات النسائية التي يتم الإستخفاف بها أو إعتبارها أصواتاً تابعة على مبدأ أنها وشريكها يتبعان خطاً سياسياً واحداً، لنفس الأسباب أو لأسباب مختلفة، وهو أمر شائع نظراً لكثرة الزيجات بين أشخاص يشتركون في وجهات النظر والمصالح. كما رأينا أيضاً أعلاه مع ب.هـ، وب.م.١٨ والتي يبدو أنها صوّتت مع عائلتها لنفس المرشّح الذي كانت قد أعطته صوتها التفضيلي، غير أنّ تحليلها كان مستنداً إلى الأجندة السياسية للمرشحين/ات. بعد مزيد من النقاش، بدا أن القائمة نفسها تتوافق مع قيمها السياسية، بإستثناء الصوت التفضيلي الذي إستند إلى تفضيل عائلتها، والتي حاولت التصويت إستراتيجياً للشخص الذي يرجح أن يفوز وبالتالي يرجح أن يخدم أجندة القائمة ككل. بالتعمق أكثر، تظهر الفروق الدقيقة أن تصويت النساء يتم على أساس قيم شخصية وسياسة. بحسب تعبير مسرحية صيف ٨٤٠:١٩
«لبنانيّة وما تتكلّموش في السياسة؟ كدى برضو يعني إيه؟»
علاوة على ذلك، تناقش النساء السياسة بين بعضهن البعض ويؤثرن بخيارات بعضهن وأحياناً
كانت إ.ل.٢٠ قد إقتنعت بالتصويت في الإنتخابات البرلمانية بسبب صديقة لها، وقد إستشارت أختها الكبرى بشأن المرشحة التي ستعطيها صوتها التفضيلي. وقد صوتت لمرشحة على قائمة مستقلة. في هذه الإنتخابات، لم يكن هناك أي ضغط من والدها على كيفية إدلائها بصوتها، لكن خلال الإنتخابات البلدية، وبحسب تعبيرها هي، صوتت مجاملة مع مرشح/ة أبيها المفضل الذي كان/ت صديق/ة للعائلة. هذا مثال على مناقشات سياسية جرت بين النساء أنفسهن بمعزل عن الرجال في حياتهن، بالإضافة لتوضيحه مسألة المنفعة العائلية خلال الإنتخابات البلدية والتي تعتبر أكبر بمقارنة مع البرلمانية، الأمر الذي قد يكون سبباً إضافياً لتكثيف العائلات ضغوطها أثناء الإنتخابات البلدية.٢١
الأزواج لا يتفقون على كل شيء، والطرف الأجدر بالتصويت مجرد مثال على ذلك
تحدث ر.أ.٢٢ عن أبكر فترة أمكنه تذكرها، حيث كانت والدته وإثنان من إخوته الكبار مع القوات اللبنانية،٢٣ فيما كان والده مع التيار الوطني الحر.٢٤ كانت هناك دائماً نكات على كل من جانبي العائلة حول سبب عدم تغيير الآخر لوجهات نظره التي جاءت مطابقة لوجهات نظر شريكه، وبالتالي كان الهدف إرساء الوحدة السياسية العائلية. لطالما تم توجيه السؤال لكلا الأخوين وليس فقط للأم، وحين كان يتم توجيهه إلى الأب كان يقول إنه الهدف دعم زوجته وأبنائه، نظراً لدعم الإبن الأكبر لحزب القوات اللبنانية. عموماً، كانت والدته تحاول إقناعه بالتصويت، وهذا العام، صوّت والده وأقرباؤه الذين كانوا يصوتون عموماً للتيار الوطني الحر لصالح القائمة المستقلة «كلنا وطني»، وهو ما فعله ر.أ. أيضاً.٢٥ تم ذلك بعد محادثات داخل العائلة حول من سيخدم البلاد أكثر، وليس حول المصالح الزبائنية. هنا نرى مثالاً على عائلة تناقش السياسة ويؤثر أبناؤها على أصوات بعضهم البعض من خلال التشاور السياسي دون اللجوء إلى أية سلطة أبوية.
لا تصوّت العائلات فقط ككتل مع أرباب يقررون ويضغطون أو يجبرون عوائلهم على التصويت بطريقة معينة، رغم أن توقعات الناخبين/ات محسوبة بسحب خطوط العائلة. هذه خلاصة سهلة يلجأ إليها المرء حين يفشل في التعمق أكثر وإستكشاف كيفية تصويت النساء والشباب ولماذا. فلأنه من المسلم به أن النساء يصوتن مع أرباب عائلاتهن، سنفشل في رؤية حالات يصوتن فيها لمصالحهن الإقتصادية الفردية، أو للمرشح/ة نفسه/ا إنما لأسبابهن السياسية الخاصة، ناهيك عن رؤية سرديات بديلة لمناقشات سياسية مع العائلة والأصدقاء يتم فيها التأثير المتبادل على الأفكار بشأن الطرف الأجدر بالتصويت، حيث يتاح لكل فرد أن يمارس إستقلاله السياسي الخاص في هذه العملية. ما دمنا نرى النساء مجرد إمتداد لأصوات عوائلهن، ونغض الطرف عن تصويتهن الفعلي، سيستمر الإستخفاف بقوتهن التصويتية ولن تؤخذ مطالبهن على محمل الجد.
ميرا بوشموني ناشطة نسوية إشتراكية مقيمة في بيروت، لبنان. درست بوشموني العلاقات الدولية ودراسات النوع الإجتماعي في جامعة نيو ساوث ويلز، أستراليا. نشأت بوشموني في قرية لبنانية في أستراليا، قبل الإنتقال بشكل دائم إلى لبنان منذ ست سنوات. بوشموني من مؤسسي/ات اللجنة النسوية الإشتراكية، وهي جزء من مجموعة سبايس ٢٧، وهما مجموعتان ضمن الكتلة النسوية. نشر لها مقالتين، الأولى في "المنشور" عن دور النقابات العمالية في تلبية مطالب النساء العاملات، والثانية في "صوت النسوة" حول تجارب تنظيم مسيرة يوم المرأة العالمي في لبنان. بعيداً عن التنظيم النسوي الإشتراكي، تطمح ميرا أن تصبح مشهورة على إنستغرام وهو هدف صعب المنال نظراً لحضورها المحدود على الإنترنت.
١ أي الدوائر التي تعتبر مقاعدها محسومة لصالح الأحزاب السياسية المكرّسة، بحيث يصعب تحديداً على القادمين/ات الجدد والمستقلين/ات الفوز فيها.
٢ وبالمعية مصلحتها هي حين تكون معتمدة إقتصادياً على الأب.
٣المقصود بنحن هنا عامة السكان والأكاديميين/ات والصحفيين/ات والسياسيين/ات إلخ.
٤مثلاً تمكن رجل كبير السن من ناخبي/ات كسروان من الإجتماع بقادة دينيين وسياسيين كبار على أساس أن لديه عائلة كبيرة جداً، أي يمكنه تحصيل دعم عدد س من الأشخاص. مرت معي هذه القصة في إحدى المقابلات.
٥مثل لبناني شعبي.
٦أنثى، ٢٣ سنة، من الشوف في قضاء عاليه، تعيش مستقلة في بيروت.
٧من هنا سأستخدم التصويت مع للدلالة على التصويت لنفس الحزب أو القائمة أو المرشح.
٨وقد ذكروا ذلك لكن الأخ لم يصرّح إلا فيما بعد، نظراً لأنه حصل على تذكرة سفر إلى لبنان لغرض وحيد هو التصويت لصالح الحزب التقدمي الإشتراكي.
٩أنثى في منتصف/أواخر الثلاثينات من زغرتا، تعيش في الدائرة نفسها.
١٠المختار أي الممثل الرسمي المحلي في البلدة أو القرية.
١١طوني فرنجية هو الزعيم الحالي لحزب المردة، وهو الحزب السياسي الرئيسي في قضاء زغرتا. طوني هو إبن سليمان فرنجية، القائد السابق للحزب.
١٢المندوب هو المراقب الإنتخابي غالباً لصالح الحزب الذي ينتمي إليه، حيث يعيّن كل حزب مراقبين له في مراكز الإقتراع.
١٣ذكر، ٢٤ سنة، من البترون، يعيش مستقلاً في بيروت.
١٤يعتبر شكلاً من أشكال الإحتجاج بالتصويت.
١٥أنثى، في أوائل/منتصف الثلاثينات، من زغرتا، تعيش وتعمل في الدائرة نفسها.
١٦هي وأختها موظفتان لدى صاحب العمل نفسه.
١٧ذكر، ٣٠ سنة، من البترون، يعيش مستقلاً في بيروت وخارج لبنان أحياناً.
١٨أنثى، ٢٥ سنة، تعيش مستقلة في بيروت.
١٩صيف ٨٤٠ مسرحية عن الإنتفاضة اللبنانية ضد الحكم العثماني، وتظهر فيها شخصية مصرية تشعر بالصدمة والريبة حين تدعي شخصية لبنانية أنها لا تتكلم في السياسة.
٢٠أنثى، ٢٧ سنة، من بكفيا في قضاء المتن، تعيش في الدائرة نفسها مع عائلتها.
٢١ليس هذا مفاجئاً بالنظر إلى أن تقديم الخدمات المباشرة أكثر شيوعاً على المستوى المحلي ولا سيما للمواطنين/ات الذين يعيشون في الدائرة نفسها التي يصوتون فيها.
٢٢ذكر، ٢٣ سنة، يعيش مستقلاً في بيروت.
٢٣القوات اللبنانية حزب سياسي يرأسه حالياً سمير جعجع.
٢٤التيار الوطني الحر حزب سياسي يرأسه حالياً جبران باسيل خلفاً لرئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون.
٢٥ التيار الوطني الحر هو حالياً في السلطة، حيث يشغل رئيسه السابق ميشال عون منصب رئاسة الجمهورية. وكما في جميع الإنتخابات في أنحاء العالم، الأحزاب الحاكمة تخسر أصواتاً حين تكون في السلطة، ولا سيما حين تفشل في تحقيق ما يفترض بها تحقيقه مما يؤدي إلى خيبة آمال مقترعيها ومقترعاتها.