البطولة اليومية
بقلم شيري الحايك وترجمة كلودين فرح
أثناء الحجر الصحي، أدركت للمرة الأولى كم أحتاج إلى النظر في عيون الناس عند الحصول على الخدمات.
بدأ الأمر حين علّق شريكي بشأن الصوت الذي تحدثه المكنسة على أرض الرصيف القاسية تحت شقتنا. كانت قرابة الساعة الخامسة صباحاً، فقال: "منو محجور". كنا نشرب القهوة تحت السماء الغائمة مع بزوغ الشمس. أشار إلى الشارع وصوت المكنسة وسكتنا تماماً بعد ذلك. فكنا جالسين نصغي إلى إيقاع تلك المكنسة وهي تضرب الأرض مراراً وتكراراً. وكان الصمت سائداً في غياب السيارات والبشر وأي شيء آخر... مجرد بعض الطيور وذاك الصوت الثقيل الذي تحدثه المكنسة فيما تمشّط أحجار الرصيف. شعرت وكأننا نفكّر في الأمر عينه، ونطرح السؤال نفسه عن سلامة ذاك الشخص الذين يكنس الشوارع، إذ لم تكن تتوفّر بعد تفاصيل كافية عن الفيروس وكيفية إنتشاره آنذاك. كان ذلك في الأسبوع الأول أو الثاني من الحجر الصحي في آذار. ثم أصبح ذاك الصوت روتين صبحياتنا اليومية.
لا أدري كيف كان الحجر الصحي سيكون لولا أولئك العاملات/ين على الخطوط الأمامية. لا أدري كم شخصاً في المدينة كان يعرف دوام عمّال/عاملات التنظيف في شارعهم قبل هذا كله. لم أرَ هذا الوجه قط ولا أعرف شيئاً عنه ولكن بفضله أفتح الباب وأخرج كل يوم بدون أن أقلق بشأن ذلك كله. وفجأة، أصبح بقاؤنا يتوقف عليهم/ن بعدما كان روتيننا اليومي يمنعنا حتى من رؤيتهم/ن فيما نهرع لتولي شؤوننا اليومية لنكون مثلاً في الموعد المحدّد لحضور إجتماع، أو كيلا يفوتنا موعد بدء عرض فيلم، أو لنصل إلى موعدنا الرومنسي، أو لنقابل أحد الأصدقاء، إلخ.
كنت أتوجه إلى المستشفى لرؤية طبيبي حين صعدت في سيارة "تاكسي كريم" مع سائق يكبت حاجة ماسة للسعال. بدأت عيناه تغرورقان بالدموع وتورّدت وجنتاه. أردت أن أقول له إنه يمكنه أن يسعل ويريح نفسه ولكنني خفت، "بركي معه كورونا؟" فبدأ يسرع وكان الخيار بالنسبة لي بين حادثة سير والكورونا، وبالنسبة له بين حادثة سير ونيل مراجعة سيئة. يبدو أن كلانا فضّل إحتمال حادثة السير. وعند وصولنا، ترجّلت من السيارة فسعل برفق وسألني ما إذا يمكنني أن أدفع له نقداً وليس عبر بطاقة الإئتمان، لأنّ الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً حتى تدفع له الشركة وهو بحاجة إلى توفير الضروريات لعائلته.
لقد تزامن الحجر الصحي مع وضع مالي دقيق جداً في لبنان، لا يمكن لأحد في لبنان الإستغناء عن دخله/ا. تمكّن معظمنا من العمل عن بُعد من المنزل، أمّا العمال/العاملات على الخطوط الأمامية، فعملهم/ن يفرض عليهم/ن الخروج من المنزل. هم/ن الأقل أجراً والأكثر عرضة للخطر.
شخصياً، لطالما إنزعجت من مقدّمي الخدمات لأنهم يطرحون أسئلة شخصية أكثر مما ينبغي. "إنت عزبا؟"، "وين بتشتغلي؟"، "ليش رايحة عالمستشفى؟"، "بتحبي السهر؟" (مع غمزة)، "شو عندك بالحمرا عال١١ بالليل؟"، "بتروحي بارتي؟" إلخ. ما زلت لا أحب الأسئلة الشخصية ولكنني لم أعد أنزعج بالقدر عينه من مقدّمي الخدمات. فقد تحوّلت هذه الفئة من الأشخاص من "متطفلون" إلى "أبطال يتطفلون".
ومن الوجوه التي حتماً لن أنساها أبداً أمينة صندوق محل البقالة. كانت أول مرة أغادر فيها المنزل منذ بدء الحجر الصحي، فاخترت أغراضي ووقفت في الصف منتظرة دوري. كان هناك ولدان مع العائلة أمامي وكانا يلحسان مقبض العربة؛ لساناهما يتنزّهان على ذاك المقبض الأحمر ذهاباً وإياباً. أردت توجيه ملاحظة للوالدين ولكنهما بدوا مهمومَين ومنهمكين جداً ويشتريان كل شيء بكميات كبيرة بداعي الخوف، تحسّباً لحبس أنفسهم لأجل غير مسمّى. عندما جاء دوري، وفيما رحت أضع أغراضي على المنضدة، رفعت نظري إلى أمينة الصندوق، وقبل أن أقول أي شيء، أدركت أنني أعرف وجهها وأنني أشتري الأغراض من هنا بين الحين والآخر، ولكنني لم أتصوّر قط في حياتي أنها ستكون إحدى بطلاتي/أبطالي في يوم ما. حتماً سأتذكّر وجهها لمدى الحياة. أربعينية، تظهر التجاعيد على وجنتيها حين تبتسم، مع شعر بني فاتح بأطراف تالفة يصل تحت كتفيها بقليل وعينين عسليتين وبشرة حنطية. عادية جداً قلما تلفت الأنظار في الأيام العادية.
أشرت إلى العربة وقلت، "لحسها الولاد، لمعلوماتك".
فأجابت، "عتلانة هم ولادي، وحدن بالبيت وأنا مضطرة إبقى بعد ساعة"
“انشالله ما بهن شي"
“ما فينا ما نشتغل، بتعرفي. الناس بدا تشتري غراض ونحنا بدنا ندفع الفواتير”
“إي بفهمك، الوضع صعب"
“الخبز لإلك؟" سألت مشيرة إلى غرض متروك على المنضدة.
"لا"
"أوكي، ٦٢الف"
"شكراً، بخاطرك".
عندما كنت ما زلت طالبة جامعية، كانت هناك حملة لمقاطعة صناديق الدفع الإلكترونية حفاظاً على وظائف الناس. ولبضع دقائق ذاك اليوم، لم أكفّ عن التفكير في مدى إستخفافنا بوظائف الخدمة اليومية التي يمكن إستبدالها بالروبوتات، وكأنّ هويات هؤلاء الأشخاص غير مهمة.
والدي رجل في بداية عقده السابع ويملك شركة صغيرة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يدير شاحنتين لنقل الأغذية والمواد الأساسية، مثل ورق المرحاض، ومواد التنظيف، والمعلّبات وغيرها في أرجاء الولايات الأميركية والدول المجاورة.
كنت أخشى الإتصال للإطمئنان عليه. كان يقلقني أن يقول لي إنه لا يضع الكمّامة أو أنه لا يستطيع إلتزام الحجر لأنّ عملاءه يصرّون على الحصول على الخدمات.
في صغري، لم أكن راضية عن العديد من قرارات والدي المهنية. فقد كان يغيّر الوظائف بإستمرار ولم أشعر قط أنه يأخذ الأمر على محمل الجدّ. وإذا كان سعيداً في عمل ما فلم يكن يهتم لحقوقه، حتى إذا كان لا ينال التقدير الكافي أو كان أجره متدنياً جداً. وإستمر الأمر على هذا المنوال طوال طفولتي إلى أن أنشأ هذه الشركة منذ بضعة أعوام. وليتني أجد الكلمات المناسبة هنا للتعبير عن مشاعري. يعود إلى أبي الفضل في حصول الناس على ما يأكلونه وعلى منتجاتهم اليومية خلال الحجر الصحي.
إتصلت به أول مرة في بداية نيسان، بعد نحو شهر من بدء الإقفال العام، وكان ضاحكاً كالعادة. عندما سألته كيف حاله، وما إذا كان يظن أنّ الوضع آمن، أو ما إذا كان يعمل من المنزل، أو يأخذ عطلة، أجاب بصوته الجهوري، "بدنا نطعمي أميركا كلها، تخايلي الوضع مع الحجر، هاها، بس عم حط الكمامة وما بشوف إلا نفس الأربع أشخاص كل يوم".
وبهذه البساطة، بعدما كان بنظري عاملاً غير مسؤول مستهتر بمسقبله المهني، تحوّل والدي من مقدّم خدمات غير مرئي إلى بطل.
ولدت شيري الحايك في حمص، سوريا، ونشأت في شيكاغو، الولايات المتحدة الأمريكية. تخرجت شيري من جامعة إلينوي في شيكاغو (UIC) مع بكالوريوس بشهادة في الهندسة المعمارية بالإضافة إلى إختصاص ثانوي في الإتصالات. شيري صحفية معتمدة ومدربة في أكاديمية دويتشه فيله في ألمانيا، وقد حازت على جائزة Goldenen Nica des Prix Ars Electronica 2012 عن فئة الإتصالات الرقمية وجائزة BoBs عن التدوين عبر الإنترنت للعام ٢٠١٢.